العودة للخلف

متى ينفع الاحتجاج بالقدر؟

تاريخ النشر: 09 / 08 / 2025
: 35

ذكر الإمام ابن تيمية رحمه الله أن: الاحتجاج بالقدر باطل باتفاق أهل الملل.

وقال: قال بعض العلماء: المتبع لهواه عند الطاعة قدري، وعند المعصية جبري.

وقال: وأما المؤمن فبالعكس إذا أصابته مصيبة نظر إلى القدر فصبر واحتسب، وإذا أساء هو تاب واستغفر كما قال تعالى: {فاصبر إن وعد الله حق واستغفر لذنبك} فالمؤمن يصبر على المصائب ويستغفر من الذنوب والمعايب، والمنافق بالعكس لا يستغفر من ذنبه بل يحتج بالقدر، ولا يصبر على ما أصابه، فلهذا يكون شقيا في الدنيا والآخرة؛ والمؤمن سعيدا في الدنيا والآخرة انتهى. مجموع الفتاوى (8/ 241)

وقال رحمه الله:  القدر نؤمن به ولا نحتجّ به، فمن احتجّ بالقدر فحجّته داحضة ومن اعتذر بالقدر فعذره غير مقبول

ولو كان الاحتجاج مقبولا لقُبل من إبليس وغيره من العصاة، ولو كان القدر حجة للعباد لم يُعذّب أحد من الخلق لا في الدنيا ولا في الآخرة، ولو كان القدر حجة لم تقطع يد سارق ولا قُتل قاتل ولا أقيم حدّ على ذي جريمة ولا جوهد في سبيل الله ولا أُمر بالمعروف ولا نُهي عن المنكر.

وأما احتجاج آدم عليه السلام

فقال الإمام ابن القيم في شفاء العليل 1/58-59 ط عطاءات: «فاحتج آدم بالقدر على المصيبة، وقال: إنّ هذه المصيبة التي نالت الذرية بسبب خطيئتي كانت مكتوبة مقدّرة قبل خلقي. والقدر يُحتج به في المصائب دون المعائب، أي: أتلومني على مصيبة قُدّرت عليّ وعليكم قبل خلقي بكذا وكذا سنة؟ هذا جواب شيخنا رحمه الله. [مج 8/303].

وقد يتوجه جواب آخر: وهو أنَّ الاحتجاج بالقدر على الذنب ينفع في موضع، ويضر في موضع، فينفع إذا احتُجَّ به بعد وقوعه والتوبة منه وتَرْك معاودته، كما فعل آدم عليه السلام، فيكون في ذكر القدر إذ ذاك من التوحيد ومعرفة أسماء الربّ وصفاته وذكرها ما ينتفع به الذاكر والسامع؛ لأنه لا يَدفع بالقدر أمرًا ونهيًا؛ ولا يُبْطِل به شريعة، بل يُخبر بالحق المحض على وجه التوحيد، والبراءة من الحول والقوة.

يوضحه أن آدم عليه السلام قال لموسى: «أتلومني على أن عملتُ عملًا كان مكتوبًا عليَّ قبل أن أُخلق؟»، فإذا أذنب الرجل ذنبًا ثم تاب منه توبة نصوحًا، وزال أثره وموجبه حتى كأن لم يكن، فأنَّبه مؤنِّب عليه ولامه= حَسُنَ منه أن يحتج بالقدر بعد ذلك، ويقول: هذا أمر كان قد قُدِّر عليَّ قبل أن أُخلق، فإنه لم يَدفع بالقدر حقًّا، ولا ذكره حجة له على الباطل، فلا محذور في الاحتجاج به.

وأما الموضع الذي يضرّ الاحتجاج به ففي الحال أو المستقبل؛ بأن يرتكب فعلًا محرمًا، أو يترك واجبًا فيلومه عليه لائم، فيحتج بالقدر على إقامته عليه وإصراره، فيُبطل بالاحتجاج به حقًّا، ويرتكب باطلًا، كما احتجَّ به المُصِرّون على شركهم وعبادتهم غير الله فقالوا: {لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا أَشْرَكْنَا وَلَا آبَاؤُنَا} [الأنعام: 148]، و {لَوْ شَاءَ الرَّحْمَنُ مَا عَبَدْنَاهُمْ} [الزخرف:20]، فاحتجوا به مُصَوِّبين لما هم عليه، وأنهم لم يندموا على فعله، ولم يعزموا على تركه، ولم يقروا بفساده، فهذا ضدُّ احتجاج مَن تبين له خطأ نفسه، وندم وعزم كل العزم على أن لا يعود، فإذا لامه لائم بعد ذلك قال: كان ما كان بقدر الله.

ونكتة المسألة: أن اللوم إذا ارتفع صحَّ الاحتجاج بالقدر، وإذا كان اللوم واقعًا فالاحتجاج بالقدر باطل. انتهى

متى ينفع العبد ذكر القدر

قال الإمام ابن القيم في شفاء العليل 1/ 60 ط عطاءات: «وقد أرشد النبي صلى الله عليه وسلم إلى الاحتجاج بالقدر في الموضع الذي ينفع العبد الاحتجاج به، فروى مسلم في "صحيحه" عن أبي هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "المؤمن القوي خير وأحب إلى الله من المؤمن الضعيف، وفي كلٍّ خير، احرص على ما ينفعك، واستعن بالله ولا تعجز، وإن أصابك شيء فلا تقل: لو أنِّي فعلتُ لكان كذا وكذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل؛ فإن لو تفتح عمل الشيطان.

فتضمن هذا الحديث الشريف أصولًا عظيمة من أصول الإيمان:

أحدها: أن الله سبحانه موصوف بالمحبة، وأنه يحب حقيقة.

الثاني: أنه يحب مقتضى أسمائه وصفاته وما يوافقها، فهو القويُّ ويحب المؤمن القويَّ، وهو وِترٌ يحب الوتر، وجميل يحب الجمال، وعليم يحب العلماء، ونظيف يحب النظافة، ومؤمن يحب المؤمنين، ومحسن يحب المحسنين، وصابر يحب الصابرين، وشاكر يحب الشاكرين.

ومنها: أن محبته للمؤمنين تتفاضل، فيحب بعضهم أكثر من بعض.

ومنها: أن سعادة الإنسان في حرصه على ما ينفعه في معاشه ومعاده، والحرص هو بذل الجهد واستفراغ الوسع، فإذا صادف ما ينتفع به الحريص كان حرصه محمودًا، وكماله كله في مجموع هذين الأمرين: أن يكون حريصًا، وأن يكون حرصه على ما ينتفع به، فإنْ حرص على ما لا ينفعه، أو فعل ما ينفعه بغير حرص؛ فاته من الكمال بحسب ما فاته من ذلك، فالخير كله في الحرص على ما ينفع.

ولما كان حرص الإنسان وفعله إنما هو بمعونة الله ومشيئته وتوفيقه، أمره أن يستعين بالله؛ ليجتمع له مقام: {إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ}، فإنَّ حرصه على ما ينفعه عبادة لله، ولا تتم إلا بمعونته، فَأَمَره بأن يعبده وأن يستعين به.

ثم قال: «ولا تعجز» فإن العجز ينافي حرصه على ما ينفعه، وينافي استعانته بالله، فالحريص على ما ينفعه، المستعين بالله: ضدُّ العاجز.

فهذا إرشاد له قبل وقوع المقدور إلى ما هو من أعظم أسباب حصوله، وهو الحرص عليه مع الاستعانة بمن أزِمَّة الأمور بيديه، ومصدرها منه، ومردّها إليه.

فإن فاته ما لم يُقدَّر له، فله حالتان:

حالة عجز، وهي مفتاح عمل الشيطان، فيلقيه العجز إلى (لو)، ولا فائدة في (لو) ههنا، بل هي مفتاح اللوم والجزع والسخط والأسف والحزن، وذلك كله من عمل الشيطان، فنهاه صلى الله عليه وسلم عن افتتاح عمله بهذا المفتاح.

وأمره بالحالة الثانية، وهي النظر إلى القدر وملاحظته، وأنه لو قُدِّر له لم يفته، ولم يغلبه عليه أحد، فلم يبْقَ له ههنا أنفع من شهود القدر، ومشيئة الربّ النافذة التي توجب وجود المقدور، وإذا انتفت امتنع وجوده، فلهذا قال: «فإن غلبك أمرٌ، فلا تقل: لو أني فعلت لكان كذا، ولكن قل: قدَّر الله وما شاء فعل». فأرشده إلى ما ينفعه في الحالتين: حالة حصول مطلوبه، وحالة فواته.

فلهذا كان هذا الحديث مما لا يستغني عنه العبد أبدًا، بل هو أشد شيء إليه ضرورة، وهو يتضمن إثبات القدر والكسب والاختيار، والقيام بالعبودية ظاهرًا وباطنًا في حالتي حصول المطلوب وعدمه، وبالله التوفيق. انتهى

 

جميع الحقوق محفوظة © موقع الشيخ ابي محمد عبدالله بن لمح الخولاني - 2025
تم نسخ الدعاء بنجاح