العودة للخلف

شرط الشهادة، وهل تجوز الشهادة بالظنون

تاريخ النشر: 11 / 08 / 2025
: 17

شرط الشهادة، وهل تجوز بالظنون

اعلم أن الشهادة بالظن لا تجوز، لأن مبنى الشهادة على العلم، والظن دونه، ويستوي في ذلك جميع الشهادات، فإنه ينبغي أن تبنى على العلم، وكل شهادة بُنيت على غير العلم فهي أهل لأن ترد، وفي الحقيقة: ليست هي بشهادة شرعية، بل ضرب من التقوُّل، أو التخرص، والتخمين.

والشهادات أنواع، فأعلاها: شهادة أن لا إله إلا الله.

وشرطها العلم واليقين، وهو ركنها الأعظم، ولهذا كم قائل لها وليس من المسلمين، بل من المنافقين المرتابين.

والله يقول: ﴿فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا الله﴾ [محمد: 19] ([1]).

وكذا الشهادة لأحد من الناس بالإيمان المطلق، أو الجزم له بالجنة، أو بالنار، كل ذلك مما ورد النهي عنه:

ففي الصحيحين ([2]) عن سعد بن أبي وقاص رضي الله عنه: أن رسول الله ﷺ أعطى رهطا وسعد جالس فترك رسول الله ﷺ رجلا هو أعجبهم إليَّ فقلت: يا رسول الله ما لك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا! فقال: «أو مسلما». فسكت قليلا ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي فقلت مالك عن فلان؟ فوالله إني لأراه مؤمنا! فقال: «أو مسلما» ثم غلبني ما أعلم منه فعدت لمقالتي وعاد رسول الله ﷺ، ثم قال: «يا سعد إني لأعطي الرجل وغيره أحب إلي منه خشية أن يكبه الله في النار».

قال الحافظ ابن رجب رحمه الله ([3]): والظاهر ـ والله أعلم ـ أن النبي ﷺ زجر سعدا عن الشهادة بالإيمان؛ لأن الإيمان باطن في القلب لا اطلاع للعبد عليه، فالشهادة به شهادة على ظن فلا ينبغي الجزم بذلك كما قال: «إن كنت مادحا لا محالة فقل: أحسب فلانا كذا ولا أزكي على الله أحدا»([4])، وأمره أن يشهد بالإسلام لأنه أمر مطلع عليه.

وقال النووي رحمه الله: قوله ﷺ: «أو مسلما» ليس فيه إنكار كونه مؤمنا، بل معناه النهى عن القطع بالإيمان، وأن لفظة الإسلام أولى به، فإن الإسلام معلوم بحكم الظاهر، وأما الإيمان فباطن لا يعلمه إلا الله تعالى، قال: وفيه أنه لا يقطع لأحد بالجنة على التعيين إلا من ثبت فيه نص كالعشرة وأشباههم وهذا مجمع عليه عند أهل السنة.

وهكذا سائر الشهادات، منوطة بالعلم، كما قال تعالى: ﴿إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ﴾ [الزخرف:86].

أي: لكن من شهد بالحق على بصيرة وعلم، بما شهدوا به.

قال ابن الجوزي رحمه الله ([5]): وفي الآية دليل على أنَّ شرط جميع الشهادات أن يكون الشاهد عالماً بما يَشهد به.

وقال القرطبي رحمه الله ([6]): وهذه الآية تدل على معنيين:

أحدهما: أن الشفاعة بالحق غير نافعة إلا مع العلم وأن التقليد لا يغني مع عدم العلم بصحة المقالة.

والثاني: أن شرط سائر الشهادات في الحقوق وغيرها أن يكون الشاهد عالما بها، ونحوه ما روي عن النبي ﷺ: «إذا رأيت مثل الشمس فاشهد وإلا فدع» ([7]).

واستُدل على ذلك أيضا بقوله تعالى: ﴿ذَلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ الله وَأَقْوَمُ لِلشَّهَادَةِ وَأَدْنَى أَلَّا تَرْتَابُوا﴾ [البقرة: من الآية282] ([8]).

وقال الخرقي رحمه الله: مسألة: (وما أدركه من الفعل نظرًا، أو سمعه تيقنا، وإن لم ير المشهود عليه، شهد به)

قال ابن قدامة رحمه الله ([9]): وجملة ذلك أن الشهادة لا تجوز إلا بما علمه؛ بدليل قوله تعالى: ﴿ إِلا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَهُمْ يَعْلَمُونَ ﴾. وقوله تعالى: ﴿وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً﴾ [الإسراء:36].

وتخصيصه لهذه الثلاثة بالسؤال؛ لأن العلم بالفؤاد، وهو يستند إلى السمع والبصر؛ ولأن مدرك الشهادة الرؤية والسماع، وهما بالبصر والسمع.

وروي عن ابن عباس، أنه قال: سئل رسول الله ﷺ عن الشهادة، قال: «هل ترى الشمس؟» قال: نعم، قال: «على مثلها فاشهد أو دع» رواه الخلال، في «الجامع» بإسناده

إذا ثبت هذا، فإن مدرك العلم الذي تقع به الشهادة اثنان، الرؤية والسماع، وما عداهما من مدارك العلم كالشم والذوق واللمس، لا حاجة إليها في الشهادة في الأغلب.

وقال ابن العربي رحمه الله عند قول الله تعالى: ﴿وَمَا شَهِدْنَا إِلَّا بِمَا عَلِمْنَا ﴾ [يوسف:81] قال: فيها ست مسائل: المسألة الأولى: الشهادة مرتبطة بالعلم عقلا وشرعًا، فلا تسمع إلا ممن علم، ولا تقبل إلا منه، ومراتب العلم في طرقه مختلفة، ولكنَّه يعود إلى أصل واحد، وهو: تعلّقه بالمعلوم على ما هو به، فإذا نسي الشهادة فذُكِّر بها وتذكرها أداها، وذلك لقول الله سبحانه: ﴿أَنْ تَضِلَّ إِحْدَاهُمَا فَتُذَكِّرَ إِحْدَاهُمَا الْأُخْرَى﴾ [البقرة: من الآية282].انتهى المراد

وقد عرف ابن القيم رحمه الله الشاهدَ فقال ([10]): والشاهد المقبول عند الله: هو الذي يشهد بعلم وصدق فيخبر بالحق مستندا إلى علمه به كما قال تعالى: ﴿إلا من شهد بالحق وهم يعلمون ﴾، فقد يخبر الإنسان بالحق اتفاقا من غير علمه به، وقد يعلمه ولا يخبر به، فالشاهد المقبول عند الله هو الذي يخبر به عن علم.

واعلم أنَّ للشهادة مراتب أربع، لابد منها:

فأول مراتبها: علم ومعرفة واعتقاد لصحة المشهود به وثبوته.

وثانيها: تكلمه بذلك ونطقه به وإن لم يُعلم به غيره بل يتكلم به مع نفسه ويذكرها وينطق بها أو يكتبها.

وثالثها: أن يُعلم غيره بما شهد به ويخبره به ويبينه له.

ورابعها: أن يلزمه بمضمونها ويأمره به. ([11]).

 


([1]) انظر «مجموع الفتاوى» (3/313) و (14/409).

([2]) البخاري (27) ومسلم (150).

([3]) «فتح الباري» (1/131 ـ 132) مكتبة الغرباء.

([4]) رواه البخاري (2662).

([5]) «زاد المسير» (7/147) ط:دار الكتب.

([6]) «تفسيره» (16/106)، وللجصاص بحث جيد أيضا في «أحكام القرآن» عند (آية الدين).

([7]) أخرجه البيهقي في «الشعب» (7/455) وأبو نعيم في «الحلية» (4/18) والعقيلي في «الضعفاء» (4/69)و غيرهم من طرق عن محمد بن سليمان بن مسمول أخبرني عبيد الله بن سلمة بن وهرام عن أبيه عن طاووس عن ابن عباس رضي الله تعالى عنه أن رجلا سأل النبي ﷺ عن الشهادة فقال: «هل ترى الشمس؟» قال نعم قال: «فعلى مثلها فاشهد أودع».  قال أبو نعيم: غريب من حديث طاووس تفرد به عبيد الله بن سلمة عن أبيه. قلت: وهذا سند ضعيف، محمد بن سليمان بن مسمول: قال أبو حاتم: ليس بالقوي ضعيف الحديث كان الحميدي يتكلم فيه، وحكى البخاري تضعيف الحميدي له في «التاريخ»، وضعفه النسائي أيضا.

وعبيد الله بن سلمة بن وهرام: ذكره البخاري في «التاريخ» من رواية محمد بن سليمان عنه، وكذا ابن أبي حاتم، وحكى عن علي بن المديني قوله: لا أعرف عبيد الله بن سلمة بن وهرام هذا، وفي «اللسان»: روى الكتاني عن أبي حاتم تليينه انتهى وقال الأزدي منكر الحديث اهـ وأما والده فمن رجال التقريب قال الحافظ: صدوق

([8]) و«تقرير الاستدلال في أحكام القرآن للجصاص» (2/256)ط:إحياء التراث، و «تفسير القرطبي» (3/401).

([9]) «المغني» (14/138) ت: التركي.

([10]) «اعلام الموقعين» ( 4 / 133 ) .

([11]) انظر «مدارج السالكين» (3/451).

جميع الحقوق محفوظة © موقع الشيخ ابي محمد عبدالله بن لمح الخولاني - 2025
تم نسخ الدعاء بنجاح