سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
القواعد الفقهية المؤثرة في حكم الحجر الصِّحي
الحجْر الصحِّي أنواع:
- فمنْه الحجر الخاص : وهو حجر المرضى والمصابين بالأوبئة المعدية وهذا بالنسبة للأشخاص . ومنه ما هو بالنسبة للمكان كالحجْر على قرية أو مدينة. وحجر خاص بالنسبة للزَّمان كأسبوع مثلًا. ومنه: الحجر على استعمال بعض الأدوية أوْ المطهِّرات، أو إجراء بعض العمليات، أو صَرْف بعض الأدوية مِن قِبَل غير المختَصّ، ومنه: الحجر على بعض الممارسين الصحيين، ونحو ذلك من أنواع الحجر الخاص.
- ومنه الحجر العام: بما يشمل الأصحَّاء، أو يشمل البلد بأكمله، أو لمدَّة غير محددة.
وهذا الحجر بأنواعه من مهام ولي الأمر، ومسئولياته تجاه مَن ولَّاه الله أمرهم، وقد يكون ضرورة، وواجبًا، ومنه ما هو على سبيل الاحتياط لهم، وما بين ذلك. وذلك أنَّ: (تصرفات الإمام منوطة بالمصلحة العامة) وهي قاعدة عظيمة متفق عليها في الجملة.
وهذا الحجر مندرج تحت جملة من القواعد الفقهية العظيمة المستندة إلى أدلة كثيرة من الشرع، فلا يجوز التشغيب والتشكيك على عامَّة الناس في مشروعية وضرورة التزام ما قد قرَّرته الشريعة السمحة الغرَّاء.
ومن تلك القواعد:
- (احتمال الضرر الخاص لدفع الضرر العام): ومثاله: أنه لا يجوز تعطيل الناس عن منافعهم وأشغالهم لكن يُستثني من ذلك تعطيل المدَّعى عليه منها إذا استدعاه الحاكم بطلب خصمه لإحضاره لما فيه من المصلحة العامَّة بقطع الخصُومات. قال الشاطبي في الموافقات (3/ 57): اعتبار الضرر العام أولى، لأنَّ المصالح العامة مقدمة على المصالح الخاصة، بدليل النهي عن تلقي السلع، وعن بيع الحاضر للبادي.
- (درء المفسدة العظمى مقدّم على المصلحة الأدنى): والقاعدة العامة في الشرع أن المصالح والمفاسد إذا تعارضت وجب ترجيح الراجح منها كما قرَّره بحرُ العُلوم وغيرُه من أئمة هذا العلم. وهذا من أصول الشريعة المتفق عليها كما قاله الإمام ابنُ القيم والفُتوحي، وقرَّرناه بأدلته في كتبنا في القواعد الفقهية بحمد الله تعالى. ويلحق بهذا أنَّ : (ارتكاب أدنى المفسدتين أولى وأوجب من ارتكاب أعلاهما). وهي من القواعد المشهورة. وقد شرحناها غير مرة.
- (ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب): وهذه من القواعد الأصولية والفقهية الكبرى، ولا شك أن العناية بصحة الناس العامة من الواجبات المنوطة بولي الأمر، ولهذا عليه أن يزجر من يعبث بذلك من المفسدين، وأن ينهى الذين يسعون على تلويث البيئة ومصادر مياه الناس، ونحو ذلك. فما توقف عليه هذا الواجب فهو واجب مثله. ويؤيده القاعدة الكبرى الآتية:
- (حفظ الصحة العامة: واجب ما أمكن): وهذا من أصول الطب، وقاعدة من قواعد الشرع، وقد قرَّرها ابنُ القيم في (الزاد)، وأدلَّتُها أشهر وأكثر من أن تُحصر في هذا المبحث، ومنه: الأمر بالتطهر، والنظافة، والنهي عن تناول واتخاذ النجاسات والقاذورات، وكذا أدلة كثيرة في الاستطابة، وآداب الطعام والشراب، وفي باب الأطعمة والذبائح، وكلّها تعطي هذا المعنى العام الذي تحمله القاعدة.
· ومن أدلة المعنى الإجمالي المشترك بين هذه القواعد في موضوعنا هذا:
- قوله ج : «لاَ يُورِدَنَّ مُمْرِضٌ عَلَى مُصِحٍّ» . متفق عليه. قال النووي في الشرح: $وأما حديث لا $يورد ممرض على مصح# فأرشد فيه إلى مجانبة ما يحصل الضرر عنده في العادة بفعل الله تعالى وقدَره، فنفى ج في الحديث الأول العدوى بطبعها، ولم ينف حصُول الضرر عند ذلك بقَدَر الله تعالى وفِعْله، وأرشد في الحديث الثاني: إلى الاحتراز مما يحصُل عنده الضرر بفعل الله وإرادته وقَدَره، فهذا هو الصواب الذي عليه جمهور العلماء.
- قوله ج: لاَ عَدْوَى وَلاَ طِيَرَةَ، وَلاَ هَامَةَ وَلاَ صَفَرَ، وَفِرَّ مِنَ المَجْذُومِ كَمَا تَفِرُّ مِنَ الأَسَدِ». أخرجه البخاري من حديث أبي هريرة رضي الله عنه. وفي صحيح مسلم عن عَمْرِو بْنِ الشَّرِيدِ، عَنْ أَبِيهِ قَالَ: كَانَ فِي وَفْدِ ثَقِيفٍ رَجُلٌ مَجْذُومٌ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ ج: «إِنَّا قَدْ بَايَعْنَاكَ فَارْجِعْ».
لكن لابد أن نفهم هذه الأحاديث على الوجه الصحيح، ففي هذه الأحاديث: الرفق بهذا المريض بمرض وبائي، لئلا يشقّ عليه الاقتحام مع الناس فيتأذى هو في نفسه ويتأذى به الناس ويحصل الحرج لهم جميعا. وليس فيها تضييع هذا المريض وإهماله، بل لا يجوز ذلك، فإن : (الضرورة تُقدَّر بقدرها) و (دفعُ الضرر مقدَّر بقَدَره . فلا يجوز أن يؤدي إلى ما هو أعظم منه). ولكن فيها: استحباب مباعدته مِن قِبل مَن لا يتعيَّن عليه العناية به. وقد يجب ذلك، حتى أثبتَ الفقهاء حقَّ خِيار الفسْخ للزوجة به.
وقال القاضي عياض: قال العلماء: ويمنع من المسجد والاختلاط بالناس.
هذا والمقصود في هذه السلسلة :
الإشارة إلى ما نقصده بأوجز عبارة.
والعناية في التقرير بأدنى ما يحصُل به الكفاية.
إذ الغرض توضيح ما يحتاجه عامة الناس في زمان انتشار هذا المرض.
والمقصود : التنبيه على أصولٍ، وأدلةٍ، واضحةٍ بيِّنة. ومواقِفَ من العامَّة والخاصَّة تجاه ما يجري متعيِّنة.
كتبهُ
أبو محمد عبدالله بن لمح الخولانـي
مكة المكرمة