العودة للخلف

بعض الحِكَم العظيمة المستنبطة من انتشار الوباء

تاريخ النشر: 15 / 08 / 2025
: 25

(الوباء 8)

سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)

ذكر بعض الحِكَم المستنبطة من انتشار الوباء

قد بينَّا في مقال سابق أنَّ الطاعون والوباء وسائر الأمراض خلْق مِن خَلْق الله تعالى، وفِعل من أفعاله، لا يَقدر على ذلك أحدٌ إلا الله، وأنَّ أحدًا كائنًا من كان لا يَملك أنْ يُمرض ولا أن يَشفي، ولا أن يُحيي ولا أن يُميت، بل ذلك من خصائص ربوبيته سبحانه وتعالى، وقد يكون للعباد لذلك تسبُّب، كما أنَّ غشيان الرجل أهله سببٌ لخلق الله : إنسانًا، وتناول بعض المضرّات سبب لبعض الأمراض.  وإن كان لا يلزم من السبب: الحمْل والمرض.

وإذا تقرّر هذا ؛ فالله سبحانه وتعالى حكيم لا يفعل شيئًا عبثًا، ولا يخلق شيئًا سدى،  لغير معنى، بل  أفعاله سبحانه وتعالى صادرة عن حكمة بالغة ، لأجلها يفعل. والحكمة البالغة ثابتة لله سبحانه تعالى في الخلْق والأمر . فخلْقُه جلَّ وعلا لا يَقدرُ على إحصاء حِكَمهِ عادٌّ، وشَرْعُه جلَّ وتعالى لا يقْدرُ على إحصَاء عِلَلهِ ومَصَالحهِ حاضرٌ ولا باد.

ومِن الحِكَم العظيمة الكثيرة التي يمكن استنباطها من انتشار الوباء في العالمين، ما يلي:

أولها: التذكير بنعم الله تعالى على العباد . تلك النعم العظيمة التي لا يزالون يتقلبون فيها ليلا ونهارا،

وتتواتر عليهم سرًّا وجهارا.  ومن أعظم تلك النعم:

- إقامة الجمعة والجماعات في بيوت الله تعالى في سائر المفروضات من غير ضراء ولا فتنة.

- الأمن من المخاوف. التي مِن أخطرها الخوف مِن : سيئ الأسقام، وأشد الآلام.

- طلب المعايش، والسعي في الأض، والمشي في مناكبها.

- الصِّحة في الأبدان، والطمأنينة في القلوب، والتوسّع في الحياة.

- زيارة الخلان، ومجالسة الأحباب والإخوان.

- التمتُّع بالمباحات، والتفسُّح في المرافق والصُّعدَات.

* وبالجملة: فكلُّ نِعْمة: سلَبها الوباءُ على الناس، أو منعَهُم منها، أو قلَّلها، فعليهم أنْ يعلمُوا أنه جاء من الله تعالى : ليذكِّرهم بمُوليها ومسديها ليشكروه ولا يكفروه ، ويطيعوه ولا يعصوه.

ثانيها: ظهور قُدرةِ الله تعالى، وقَهره، وعظَمته، وملكوته، ومشيئته.

ثالثا: التخويف : من بطش الله، وشديد أخذه، وأليم عقابه، والتنبيه على أن العباد في قبضته.

رابعها: ظهور عجز البشرية، وضعف البرية، وهوانهم على الله إن هم عصوه. وعَدَم ملكهم لأنفسهم ولا لغيرهم قليلا ولا كثيرا ، وأنهم لا مفرَّ لهم من الله، ولا رادّ لهم من قضائه، ولا معقِّب لهم عن حكمه، ولا مجير لهم من غضْبته، ولا مُنجي لهم سطوته. (قُلْ إِنِّي لَا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَلَا رَشَدًا * قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَلَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَدًا) .

(قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ).

(قُلْ أَفَرَأَيْتُمْ مَا تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرَادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كَاشِفَاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرَادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكَاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ).

خامسها: ومِن الحِكَم الجليلة : ظهور دلائل ألوهيته، وذلك من لوازم ربوبيته، فإذا كان لا يخلق ولا يرزق ولا يملكُ النفعَ والضر، ولا يجير : إلا الله تعالى، كان ذلك ملزمًا بإفراده بالألوهية والعبادة والقصد، وإذا كان سبحانه هو الفعال لما يريد، فيجب أن يكون هو وحده سبحانه وتعالى دون من سواه مقصود العبد فيما يريد.

فإذا كان مَن عبدَه وتألهه وقصده المشرك بالعبادات القلبيه والبدنية وأشركه مع الله تعالى إذا نزلت به المعضلات واشتدت عليه الخطوب والكربات: لا يملكُ له نفعًا، ولا يدفع عنه ضرا، إنما الذي يكشف الكرب: الله. ويفرج الضيق هو: الله ، فإن الله سبحانه وتعالى وحده هو المستحق للعبادة دون من سواه. وكم في القرآن من بيان ذلك، كما قال تعالى: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ) [الرعد: 16].

وقال سبحانه: (إِنَّمَا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثَانًا وَتَخْلُقُونَ إِفْكًا إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقًا فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَاعْبُدُوهُ وَاشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ) [العنكبوت: 17].

وقال: (قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَا يَمْلِكُونَ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ فِي السَّمَاوَاتِ وَلَا فِي الْأَرْضِ وَمَا لَهُمْ فِيهِمَا مِنْ شِرْكٍ وَمَا لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ) [سبأ: 22] .

سادس الحِكَم العظيمة: تنبيه العباد إلى ضرورة الرجوع إلى الله تعالى، والتوبة إليه من معصيته، والإقلاع عن مساخطه، والمجاهرة بمُغضِباته. قال تعالى: (ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [الروم: 41]

وقال سبحانه: (وَلَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذَابِ الْأَدْنَى دُونَ الْعَذَابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ) [السجدة: 21].

ومن العذاب الأدنى: ما يصيب الناس في الدنيا من الوباء العام، ونحوه من الجائحات، التي يمُوت بها كثير من الناس ، وتتعطل معها معايشهم، وتفسد بها مكاسبهم.

سابع الحكم العظيمة: التذكير بالعذاب الأكبر، والنكال الأخطر، والتخويف من العذاب الغليظ، الأبدي السرمدي. كما في الآية السابقة، وقد قال القرطبي في تفسيره: لا خلاف أنَّ العذاب الأكبر: هو عذاب جهنم. فكل عذاب في الدنيا ونكال : هو تذكير بذلك العذاب الشديد وتحذير للمجرمين منه.

ثامنها: ظهورُ قَدَرِ الله تعالى واختياره ، ومشيئته سبحانه وتعالى، فإن في هذا الوباء تتجلى أقدار الله تعالى، وتتكشَّف مشيئته عزّ وجل، ألا ترى أنَّ الوباء يعمُّ البلدَ ويدخُل الدُّور فيسقَمُ هذا ويموت هذا ويسْلَم ذاك !!.

وهكذا؛ يجالسُ الرجلان الصَّحيحان : السقيمَ ، في المجلس الواحد والصفة الواحدة والزمن بعينه فينتقل المرض إلى أحدهما دون الآخر، فلا تفسير لذلك إلا مشيئته سبحانه وتعالى التي قهرت المخلوقات، وقدرته التي غلبت الموجودات، فمَن شاء الله تعالى أنْ يمرض : أصابه المرض ، ومَن شاء أن يموت: مات. ومن شاء أن يسلم : سَلِم.

وتاسعها: وهي حكمه تنبثق من السابقة: ظهور أنَّ الأسباب لا تعمل بنفسها، بل بقدر الله واختياره، وأن العدوى لا تنتقلُ بنفسها بل بمشيته سبحانه وتعالى.

وعاشرها: وهي حكمة منبثقة أيضا من السابقة: ظهور لُطْفه سبحانه وتعالى بمن أرد أن يَسْلَمَ، وانكشاف رحمته تعالى بمن شاء أن لا يسْقَم. ومِن عجائب لطفه سبحانه وتعالى في زمن الوباء ما ذكره ابنُ كثير في البداية والنهاية (11/ 720/ ط هجر) عن مَعْدِيّ، عَنْ رَجُلٍ يُكَنَّى أَبَا النُّفَيْلِ، وَكَانَ قَدْ أَدْرَكَ زَمَنَ الطَّاعُونِ، قَالَ: كُنَّا نَطُوفُ فِي الْقَبَائِلِ وَنَدْفِنُ الْمَوْتَى، فَلَمَّا كَثُرُوا لَمْ نَقْوَ عَلَى الدَّفْنِ، فَكُنَّا نَدْخُلُ الدَّارَ، وَقَدْ مَاتَ أَهْلُهَا، فَنَسُدُّ بَابَهَا. قَالَ: فَدَخَلْنَا دَارًا فَفَتَّشْنَاهَا، فَلَمْ نَجِدْ فِيهَا أَحَدًا حَيًّا فَسَدَدْنَا بَابَهَا، فَلَمَّا مَضَتِ الطَّوَاعِينُ كُنَّا نَطُوفُ نَنْزِعُ تِلْكَ السُّدَدِ عَنِ الْأَبْوَابِ، فَفَتَحْنَا سُدَّةَ الْبَابِ الَّذِي كُنَّا فَتَّشْنَاهُ، فَإِذَا نَحْنُ بِغُلَامٍ فِي وَسَطِ الدَّارِ طَرِيٍّ دَهِينٍ، كَأَنَّمَا أُخِذَ سَاعَتَئِذٍ مِنْ حِجْرِ أُمِّهِ. قَالَ: وَنَحْنُ وُقُوفٌ عَلَى الْغُلَامِ نَتَعَجَّبُ مِنْهُ فَدَخَلَتْ كَلْبَةٌ مِنْ شَقٍّ فِي الْحَائِطِ، فَجَعَلَتْ تَلُوذُ بِالْغُلَامِ، وَالْغُلَامُ يَحْبُو إِلَيْهَا حَتَّى مَصَّ مِنْ لَبَنِهَا!!!. قَالَ مَعْدِيٌّ: فأَنَا رَأَيْتُ ذَلِكَ الْغُلَامَ فِي مَسْجِدِ الْبَصْرَةِ، وَقَدْ قَبَضَ عَلَى لِحْيَتِهِ!!. أي أنه عاش دَهْرًا.

حادي عشر الحِكم الباهرة في انتشار الوباء: بيان أن الشرع لا ينافي القدر، وأن العمل بالسبب لا ينافي التوكل، وذلك أن الله تعالى جعل الأمور بأسبابها، وربَط المسببات بها، ولم يجعلها موجدة لها من العدَم، والعدوى سبب لانتشار الوباء ولكنها ليست موجدة له من العدم، ولا ينتقل المرض إلا لمن شاء الله تعالى. ولما كانت العدوى سببًا قدريًا جاء في الشرع ما يفيد مشـروعية اتخاذ الحذر والتحرز منه، كما في حديث : «فر من المجذوم»، وحديث: تَرْك مبايعة النبي ﷺ المجذوم بالمصافحة والاكتفاء ببيعته بالكلام. وكذا النهي عن دخول دار الوباء، أو الخروج منها. ونحو ذلك من الاحترازات التي قد تكلَّمنا على بعضها في مقالات مستقلَّة.

ثاني عشرها: وهي من أعظم الحِكَم: ظهور أثر إقامة دين الله وشرعه، والعمل بمقتضـى خطابه وسنة نبيه ﷺ، فإن الله تعالى شرعَ الدَّين الذي رضيه : لإصلاح العباد وإصلاح سائر أحوالهم، فقد ظهر للناس جميعًا برهم وفاجرهم: ما في العمل بما شرَعَهُ الله زمن الوباء من التشريعات : مِن حُسْن وصَلَاح وحُلول عظيمة ، فلم يسع غير الجاحد من الكفار إلا الاعتراف بعظَمة دين الإسلام، وجمال تشريعاته.

فالحجر الصحّي أنجع حلِّ للوباء توصَّلت إلى الحضارات : مبدأُه من الشـريعة الإسلامية.

والمحافظة على النظافة والطهارة غاية الحلول للوباء عند أمهر الأطباء الآن  : منبعُه من دين الإسلام.

فما أعظم هذا الدِّين، وما أكمله، وما أحسنه، وما أصلحه لأحوال الناس، وما أنجعه من حلّ، وما أعدله من حُكم، وما أبعده من الجور، وما أشمله من تشريع، وما أسبقه لكلِّ خير، وما أبهاه لكلِّ ناظر، وما أهداه لكل حائر.

ثالث عشرها: وهو من أعظم الحِكَم: أنَّ التوحيد أساس طمأنينة القلوب، وسعادة النفوس، وراحة البال. فكَم في الرضاء بقدر الله تعالى ، وصدق التوكل على الله تعالى، من الطمأنينة والراحة، وذلك من آثار حقيقة التوحيد وتحقيق العبد له.

وانظر: إلى مَن ينعدم عنده التوحيد ، أو يضعف عنده التوحيد : ما يحل بهم من الهلع، وما ينزل بهم من الخوف، وما يحيط بهم من الذُّعر، حتى يغطِّي عقولَـهم، ويتركوا ما يلهجون به من القيم الإنسانية !!، والأكذوبات الوجدانية، فيتبخّر التكافل الاجتماعي الذي يلهجون به ويطير أدراج الرياح، وينعدم التراحم الإنساني الذي يزعمون تبنِّيه ويستبدلون به الوجوه الكلاح!.

فهؤلاء : ليس يعلمُ كميّةَ الخوف و الذُّعر و الهلع الذي عندهم إلا الله، كما قال تعالى: (وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلَى حَرْفٍ فَإِنْ أَصَابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَإِنْ أَصَابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلَى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيَا وَالآخِرَةَ ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ ).

أما الموحّدون المتوكِّلون فإنهم مطمئنون مرتاحون صابرون ، قوية عزائمُهم، ورابطٌ جأشُهم، يعلمون أنه لا يصيبهم إلا ما كتب الله لهم. يوقنون بقول الله تعالى: {قُلْ لَنْ يُصِيبَنَا إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَنَا هُوَ مَوْلَانَا وَعَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ} [التوبة: 51]

وقوله ﷺ: «اعْلَمْ أَنَّ الْأُمَّةَ لَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَنْفَعُوكَ، لَمْ يَنْفَعُوكَ إِلا بِشَـيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ لَكَ، وَلَوِ اجْتَمَعُوا عَلَى أَنْ يَضُرُّوكَ، لَمْ يَضُرُّوكَ إِلا بِشَيْءٍ قَدْ كَتَبَهُ اللهُ عَلَيْكَ، رُفِعَتِ الْأَقْلامُ، وَجَفَّتِ الصُّحُفُم».

رابع عشرها: أنَّ الله تعالى يكتب به الشهادة لمن شاء . كما في صحيح البخاري عن أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها أنها سألت النبي ﷺ عن الطاعةن فأخبرها: «أَنَّهُ عَذَابٌ يَبْعَثُهُ اللَّهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ، وَأَنَّ اللَّهَ جَعَلَهُ رَحْمَةً لِلْمُؤْمِنِينَ، لَيْسَ مِنْ أَحَدٍ يَقَعُ الطَّاعُونُ، فَيَمْكُثُ فِي بَلَدِهِ صَابِرًا مُحْتَسِبًا، يَعْلَمُ أَنَّهُ لاَ يُصِيبُهُ إِلَّا مَا كَتَبَ اللَّهُ لَهُ، إِلَّا كَانَ لَهُ مِثْلُ أَجْرِ شَهِيدٍ».

خامس عشرها: أن الله تعالى يمحو به من ذنوب عباده ما شاء لمن يشاء . كما قال ﷺ: «ما يزال البلاء بالمؤمن والمؤمنة في نفسه ، وولده ، وماله ، حتى يلقى الله وما عليه خطيئة». وقال ﷺ: «مَا يُصِيبُ المُسْلِمَ، مِنْ نَصَبٍ وَلاَ وَصَبٍ، وَلاَ هَمٍّ وَلاَ حُزْنٍ وَلاَ أَذًى وَلاَ غَمٍّ، حَتَّى الشَّوْكَةِ يُشَاكُهَا، إِلَّا كَفَّرَ اللَّهُ بِهَا مِنْ خَطَايَاهُ».

فلو أنَّ المسلم لم يصبْه الوباء، ولكنه أصابه من الهم والغم والضيق الذي هو من آثار الوباء ، واحتسب ذلك عند الله تعالى : حاز الثناء ، وله الثواب ، وتكفير الذنوب، إن شاء الله تعالى.

سادس عشرها: أن الله تعالى يجعله رفعةً في درجةِ مَن شاء من عباده المؤمنين ، عنده سبحانه وتعالى.

كما قال ﷺ: «مَا يُصِيبُ الْمُؤْمِنَ مِنْ شَوْكَةٍ فَمَا فَوْقَهَا إِلا رَفَعَهُ اللَّهُ بِهَا دَرَجَةً ، أَوْ حَطَّ عَنْهُ بِهَا خَطِيئَةً». رواه مسلم.

سابع عشرها: وهي من الحِكَم العظيمة: تمحيص المؤمنين وإذهاب دخنهم ودغلهم.

وأيضًا: محق للكافرين.

قال الله تعالى : ( وَلِيُمَحِّصَ اللّهُ الَّذِينَ آمَنُواْ وَيَمْحَقَ الْكَافِرِينَ) آل عمران/141 .

قال العلامة القاسمي (4/239) : «أي لينقّيهم ويخلّصهم من الذنوب ، ومن آفات النفوس.

ثم ذكرَ حكمةً أخرى وهي: (ويمحق الكافرين ) أي يهلكَهم ، فإنهم إذا : ظفروا بَغَوا وبطروا، فيكون ذلك سبب دمارهم وهلاكهم.

إذ جرتْ سنّةُ الله تعالى أنه إذا أراد أن يهلك أعداءه ويمحقهم : قيّض لهم الأسباب التي يستوجبون بها هلاكهم ومحقهم، ومِن أعظمها بعد كفرهم : بغيُهم وطغيانهم في أذى أوليائه ومحاربتهم وقتالهم والتسليط عليهم».

قال ابن القيم في زاد المعاد : «فلولا أنه سبحانه يداوي عباده بأدوية الـمِحَن والابتلاء : لطغوا وبغَوا وعتَوا ، والله سبحانه إذا أراد بعبدٍ خيرًا سقاهُ دواءً من الابتلاء والامتحان على قدْر حاله ، يستفرغ به من الأدواء المهلكة ، حتى إذا هذَّبه ونقَّاه وصفَّاه : أهَّله لأشرف مراتب الدنيا ، وهي عبوديته ، وأرفع ثواب الآخرة وهو رؤيته وقربه».

فـ «لولا مِـحَن الدنيا ومصائبها : لأصاب العبدَ مِن أدواء الكِبْر والعُجب والفرْعَنة وقسوة القلب - ما هو سبب هلاكه عاجلًا وآجلا . فمِن رحمة أرحم الراحمين : أن يتفقده في الأحيان بأنواع من المصائب، تكون حِمية له من هذه الأدواء، وحفظًا لصحةِ عُبوديته، واستفراغا للمواد الفاسدة الرديئة المهلكة منه، فسبحان مَن يَرحم ببلائه، ويبتلـي بنعمائه». انتهى بتصرف.

وهذا ظاهر لا ريب فيه: فلو استمرَّت الحياة بدون منبِّهات من الابتلاءات فقد يصل الإنسان إلى مرحلة الغرور والكبر، ويظن نفسَه مستغنيًا عن الله، كما قال تعالى: ﴿ كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى * أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى﴾. فمِن رحمته سبحانه : أن يبتلي الإنسان حتى يعود إليه. فـ «يعلم أنّ الذي ابتلاه بذلك أحكم الحاكمين، وأرحم الراحمين، وأنه سبحانه لم يرسل إليه البلاء ليُهلِكَه به، ولا ليعذِّبه به، ولا ليجتاحه، وإنما:

- ليمتحِنَ صبره ورضاه عنه ، وإيمانه.

- وليسْمَع تضرُّعَه وابتهالَه.

- وليراه طريحًا ببابه لائذًا بجنابه ، مكسور القلب بين يديه ، رافعًا قصص الشكوى إليه».

ثامن عشرها: ظهورُ كلٍّ على حقيقته ، ورجوعُ كلٍّ إلى أصله ومعدنه، فالأصيل يبقى أصيلًا، والمزيف مزيّفًا، ويظهر أهل الأزمات، ومَن تُناط بهم المهمّـات، ممن لا يصلح لفَلْـيِ البعير!!.

ويظهر حِقد الحقُود، ونذالة الأرذال وسفالتهم. وقد أحسن من قال:

     جزى الله الشدائد كل خير   *   وإن كانت تُغصِّصُني بريقـي

     وما شُكري لها إلا لأنـــي   *   عرفتُ بها عدوِّي من صديقي

قال الفضيل بن عياض: (الناس ما داموا في عافية مستورون، فإذا نزل بهم بلاءٌ صاروا إلى حقائقهم، فصَار المؤمن إلى إيمانه، وصار المنافق إلى نفاقه).

تاسع عشرها: انكشاف الحقيقة للمنبهرين بالكافرين واكتشافاتهم وما أَقدرهم الله تعالى عليه وعلَّمهم الوصُول إليه، حتى غطَّت حضارتُهم! على عقول بعض المسلمين هداهم الله فربما فضَّلوا بعض أولئك على المسلمين!! ، وربما هجَّنوا تديُّن المسلمين وإقبالهم على عبادة الله تعالى وعنايتهم بدين الله وتعلمه وتبليغه !!. ونسوا أنهم إنما بلغوا ما بلغوا بإقدار الله لهم، وأنهم لولا أن الله علّمهم وأقدرهم ما صنعوا شيئًا.

فانظر: كيف بقيتْ جميعُ البشرية أمام ذلك المخلوق الضعيف: عاجزة، فقيرة، مسكينة، حائرة، وفيهم أذكى الأطباء ، وأشهر الألبّاء، وأحدث المخترعات، وأحسن المكتَشَفات !!. فهل يعتبر المعتبرون أن ما على ظهر الأرض متاع حقير، وأنَّ الغاية: إقامة دين الله تعالى.

الحكمة العشرون وهي آخر ما فاضت به القريحة ساعتي هذه وهي أيضًا من الحكم العظيمة البالغة: ظهور حقيقة الدنيا وحقارتها وقلَّة شأنها، والتشويق إلى دار القرار والنعيم المقيم ودار السلامة من الآفات والشرور وأسباب المخاوف والبليات. حيث يقال: (ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ)

(يَاعِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَأَزْوَاجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطَافُ عَلَيْهِمْ بِصِحَافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَأَكْوَابٍ وَفِيهَا مَا تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَتَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَأَنْتُمْ فِيهَا خَالِدُونَ (71) وَتِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ} [الزخرف].

قال ﷺ: «يُنَادِي مُنَادٍ: -أي أهل الجنة- إِنَّ لَكُمْ أَنْ تَصِحُّوا فَلَا تَسْقَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَحْيَوْا فَلَا تَمُوتُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَشِبُّوا فَلَا تَهْرَمُوا أَبَدًا، وَإِنَّ لَكُمْ أَنْ تَنْعَمُوا فَلَا تَبْأَسُوا أَبَدًا» فَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: (وَنُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوهَا بِمَا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ)». رواه مسلم.

نسأل الله بمنه وكرمه وإحسانه أن يجعلنا من أهلها مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين.

كتبه

أبو محمَّد عبدالله بن أحمد لمح الخولاني

- مكة المكرمة -  2 شعبان عام 1441 هـ  -

 

جميع الحقوق محفوظة © موقع الشيخ ابي محمد عبدالله بن لمح الخولاني - 2025
تم نسخ الدعاء بنجاح