(الوباء –13)
سلسلة مقالات في الوباء ، وكان كتابة هذه المقالات (أيام كورونا)
حكم الصلاة مع تباعد المصلين عن بعضهم البعض في زمن الوباء
الحمد لله رب العالمين. والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.
أما بعد: فهذه كلمات مختصرة في هذه المسألة وكنت قد أجبت فيها بما بلغَهُ عِلْمي باختصار لـمّـا جاءت تساؤلات من إخوةٍ من بلدان أمرَتْ السُّلطات فيها بالتباعد بين المصلين. ثم إنه كثرت الأسئلة لما توسَّع الوباء، والإخوة يحسِّنون الظن، فرأيتُ أنْ أكتبَ فيها هذه الورقةَ لأحيل إليها مَن أحب مطالعتها.
وكتبتُ في هذه الورقة ما بلغهُ عِلمي واجتهادي ونسأل الله التوفيق والتسديد للصواب، وهذه مسألة فقهية تعدُّ من النوازل من وَجهٍ، وهي قديمة تكلم عنها الفقهاء مِن وجهٍ آخر لأنّها في الحقيقة صورة من صُور مسألة: صَلاة المنفرد خلْف الصّف.
ولابد أن أبيّن للقارئ الكريم أني أتكلم عن مسألة محدُودة بضابطٍ، وهو: حُكم صلاة مَن يُصلِّي جماعة مع تباعُد بين المصلِّين بنحْو المتر أو أكثر قليلًا، من حيث: الصِّحّة، هل تصحّ، وذلك إذا: أمرَ وليُّ الأمر ، أو السُّلطات المتسلّطة في البلد ، و التزم بذلك أهلُ المسجد وألزمُوا به مَن يدخل يصلي معهم، ولا يُوجد إلا من هو على شاكلتهم، ولا يحبُّون التقارب بل يغضَبون وتحدُث فتنة بالتقارب ، بحيث إمَّا أنْ يصلي على هذا الحال ، أو يصلي منفردًا في بيته.
وقد علمْتَ أنه إما أن يجتمعَ: الإكراه على هذا الفعل، والعجز عن تحقيق المصافة المأمور بها. أو يوجد أحدهما.
وأنا أتكلَّم عن مسألة حاصلة ، يحتاجها المسلم في يومه وليلته، ولا علاقة لنا بمباحث ومناقشات كثيرة منتشرة الآن حول مؤامرات وسياسات أو استغلال بعض الجهات للوباء ، ولا يتأثر هذا البحث بما ينتشر أو يتردّد في صدور كثير من الناس حول هذا الوباء، بل نبحث مسألةً يحتاجها المصلي المسلم العادي تقابله في يومه وليلته.
وعندي أن شهود المسلم الجماعة على هذا الحال خير مِن أنْ يُصلِّيها فرادى، بل يجب.
وإذا صلَّى في مسجد أو مكان لا يقومُ الناس فيه بسدِّ الفُرَج، أو لا يحبُّ مَن كان عَن يمينهِ أو يساره ملامسته بالقدم، ويُبقي المصّلِّي فرجةً ربَّما تصل إلى الشبر! في كثير من الأحيان العادية كما يحصُل في الحرم وغالب المساجد، فلا يُشرع متابعته والتضييق على نفسِه وعلى غيره ، والإثم عليه-أي المتباعد_ وهذا هو المفتَى به فيما أعلم، مع ما هو معلوم من التشديد في أمْر المصافّة والتسوية، وأدلّة نهي المصلِّي عن الإخلال بذلك قريبة من أدلة نهي أنْ يُصلي فذًّا، وسَيأتـي كلام شيخ الإسلام فيه، وابن حزم يرى بطلان الصَّلاة والحالة هذه!، والكلام في فرجةِ الشبر والذراع واحد في أصل المسألة. وهو عدم الإلزام والإيجاب بسدّ الفُرجَة مع ما سبق.
فإنْ قيل: الفُرجة الكبيرة تمنع الاصطفاف وتنقلُ إلى حكم الانفراد خلْف الصف وهذا هو الذي تبطل به الصَّلاة.
فيُقال: صلاةُ المنفردِ خلْفَ الصَّف فيها خلاف كثير منتشر معروف بين أهل العلم، والذي تحرَّر لنا من زمان ونحن بدار الحديث : تحريم صلاة المنفرد خلف الصّف للنهي الصحيح الصريح عنه، وبطلانها إذا فعله مختارًا، وصحّة صلاته مع العُذر والحاجَة.
وكتبت ملخَّص ما بحثته في المسألة في كتابي البحوث النافعة (1/203).
وذكرنا أنَّ المصَافَّة كسائر الواجبات في الصَّلاة تسقُط بالعجز، وليست المصافّة بأوجب من القيام والطهارة والسترة ... وهي تسقط بالعجز أو الإكراه ونحوه.
من الخصائص
واعلم أنّ القيام في صفوف الصلاة، وتسويتها، والعناية بها مما اختصت به هذه الأمة.
قال ابن رجب في فتح الباري (6/268): «واعلم أنَّ الصفوف في الصلاة مما خص الله به هذه الأمة وشرفها به؛ فإنهم أشبهوا بذلك صفوف الملائكة في السماء، كما أخبر الله عنهم أنهم قالوا: ﴿وَإِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ﴾ [الصافات:165] ، وأقسم بالصّافات صفًّا، وهم الملائكة».
حكمه
وأما حكمه: فيجب تسوية الصُّفوف لأوامر كثيرة، منها: «استووا ولا تختلفوا»، «لتسوون صفوفكم ... »، «رصوا صفوفكم...».
قال ابن رجب في الفتح (6/267): «وقد توعّد على ترك تسوية الصفوف بالمخالفة بين الوجوه، وظاهر هذا الوعيد: يدل على تحريم ما توعّد عليهِ».
وقد جاء الأمر بـ :
1- التراصّ. كما في حديث: «رُصُّوا صُفوفَكُم».
2- سدّ الفرج، لقوله ﷺ: «وَسُدُّوا الْفُرَجَ». مسند أحمد (17/21)، وفي معناه: «وَسُدُّوا الْخَلَلَ». مسند أحمد (10/17).
3- إتمام الصفّ. لقوله ﷺ: «أَتِمُّوا الصَّفَّ الْأَوَّلَ، ثُمَّ الَّذِي يَلِيهِ، فَإِنْ كَانَ نَقْصٌ فَلْيَكُنْ فِي الصَّفِّ الْمُؤَخَّرِ». مسند أحمد (19/355).
4- ووصَفَ الصحابة كيفيةَ قيام الصحابة في الصّف، فقال أنس رضي الله عنه: «كَانَ أَحَدُنَا يُلْزِقُ مَنْكِبَهُ بِمَنْكِبِ صَاحِبِهِ، وَقَدَمَهُ بِقَدَمِهِ». رواه البخاري موصولا، وروى معلقًا عن النعمان رضي الله عنه أنه قال: «رَأَيْتُ الرَّجُلَ مِنَّا يُلْزِقُ كَعْبَهُ بِكَعْبِ صَاحِبِهِ».
صلاة الرجل منفردًا
وصَلاة الرّجل منفردًا خلف الصَّف منهي عنها باتفاق حكاهُ ابن خزيمة في ردّه على بعض العراقيين، في صحيحه عند رقم (1569 ، 1570)، وفي كلامه طُول، واختصر كلامَه ابن حجر فقال: «قال ابن خزيمة : لأنَّ صلاةَ المرء خلفَ الصف وحده منهي عنها باتفاقٍ ممن يقولُ تجزئه أو لا تجزئه».
وقد صحَّ النهي عن النبي ﷺ ، في حديثين .
قال شيخ الإسلام: «وليس فيهما ما يخالف الأصول ، بل ما فيهما هو مقتضـى النصوص المشهورة والأصول المقرَّرة فإنَّ صلاة الجماعة سُمِّيت جماعة لاجتماع المصلِّين في الفعل مكانًا وزمانًا ، فإذا أخلُّوا بالاجتماع المكاني أو الزماني، مثل : أن يتقدموا أو بعضُهم على الإمام، أو يتخلَّفوا عنه تخلّفا كثيرًا لغير عذر ، كان ذلك منهيًّا عنه باتفاق الأئمة ، وكذلك لو كانوا مفترقين غير منتظمين مثل أن يكون هذا خلْف هذا وهذا خلف هذا : كان هذا من أعظم الأمور المنكرة ، بل قد أُمروا بالاصطفاف ، بل أمرهم النبي ﷺ بتقويم الصفوف وتعديلها وتراص الصفوف وسد الخلل وسد الأول فالأول ، كلُّ ذلك مبالغة في تحقيق اجتماعهم على أحسن وجهٍ بحسب الإمكان ، فقياس الأصول يقتضـي : وجوب الاصطفاف ، وأنَّ صلاة المنفرد لا تصح». مجموع الفتاوى (23/ 393-394).
ثمَّ ذكَرَ رحمه الله (23/ 396) مسألة الرجل لا يجد موقِفًا إلا خلف الصف قال : «فهذا فيه نزاع بين المبطلين لصلاة المنفرد، والأظهر : صحة صلاته في هذا الموضع ، لأنَّ جميع واجبات الصَّلاة تسقُط بالعجز. وطرْد هذا صحَّة صلاة المتقدّم على الإمام للحاجة كقول طائفة وهو قول في مذهب أحمد. وإذا كان القيام والقراءة وإتمام الركوع والسُّجود والطهارة بالماء وغير ذلك: يسقطُ بالعجز ، فكذلك الاصطفاف وترك التقدّم.
وطرْد هذا : بقية مسائل الصفوف ، كمسألة مَن صلَّى ولم يرَ الإمام ولا مَن وراءه مع سماعه للتكبير وغير ذلك».
وقال رحمه الله أيضًا -وقد نقلتُه في البحوث النافعة-: «إذا لم يجد خلْف الصفّ مَن يقوم معه وتعذر الدخول في الصف : صلَّى وحده للحاجَة ، وهذا هُو القياس؛ فإنَّ الواجبات تسقُط للحاجة وأمْرُه بأن يصافّ غيرَه: من الواجبات، فإذا تعذَّر ذلك سقَطَ للحاجة؛ كما سقط غيرُ ذلك من فرائض الصلاة للحاجة في مثل : صلاة الخوف ، محافظةً على الجماعة. وفي الجملة: فليست المصافَّة أوجب من غيرها، فإذا سقط غيرُها للعذر في الجماعة : فهي أولى بالسُّقوط. ومن الأصول الكلية : أنَّ المعجوز عنه في الشـرع ساقط الوجوب ، وأنَّ المضطر إليه بلا معصية غير محظور ، فلم يُوجب الله ما يعجز عنه العبد». مجموع الفتاوى (20/559).
وابن حزم رحمه الله : يرى أنَّ مَن أخلّ بالاصطفاف فصلاتُه باطلة!، بل عنده مَن صلى وأمامه فُرجة يمكنه سدّها بنفسه فلم يفعل بطلت صلاته!.
ومعَ هذا قال: «ولا يُصلّ وحدَه خلف الصّف، إلا أن يكون ممنوعًا فيُصلي وحدَه وتجزئه». المحلى (4/228 ط الرباط/دار ابن حزم).
وابنُ رجب رحمه الله أيضًا قيّده بهذا، فقال رحمه الله: «... فعليه الإعادة إذا تركه عمداً، وهو عالم بالنهي، قادرٌ على الصَّلاة في الصّف». فتح الباري لابن رجب (5/27/ابن الجوزي).
فاستثنى مَن لم يقدر على المصافّة، كما هو الحال الآن في بعض البلدان ينهون عن التقارب ويأمرون بالتباعد بين المصلِّين.
ولهذا القول مرجّحات عدَّة من وجهة نظري، وبعضها أذكرها هنا على سبيل الإلماح:
ومنها: الأصل الكبير أنَّ الإكراه عُذر، وهو ثابت بأدلته، في العبادات، والمعاملات.
ومنها: الأصل الكبير: أنَّ المعجُوز عنه يسقط التكليف به عن العاجز، وقد ذكرناه بأدلته.
ومنها: أنَّ النَّهي والأمر قد يجتمعان في العمل الواحد مع صحته، إما إجماعًا، أو على الصحيح ، كما عُلم من المسألة الكبيرة (هل يقتضي النهي الفساد).
ومنها: أنَّ الأعذار المعلُومة وهي: النسيان والإكراه والخطأ ، يطّرد العذرُ بها في باب الصلاة والصوم والحج كما قرّرناه مرارا في (القواعد)، فهي متساوية في هذه الأبواب على الصحيح من أقوال أهل العلم.
ومنها: أصل الترجيح بين المصالح، ومن المعلوم في الشرع أنّ الواجبَ عند تزاحم المصالح: أنْ يقدَّم أعلاها وأولاها في نظر الشرع، وأنَّ هذا من الأمر المتفق عليه بين الفقهاء تقريرًا وتطبيقًا، ولا شك أنَّ الجماعة وتحصيلها أولى وأرجح، ولهذا يُتسامح في مسائل من أجل تحصيلها كما في صَلاة الخوف في جملة مسائل فيها، وكما في تعجيل العِشاء أول وقتها، وكما في الإبراد، وكما في الأمر بالتخفيف والاقتداء بالأضعف، وغيرها من المسائل وكله مراعاة للجماعة على غيرها من المشروعات.
ومنها: قال البخاري : (بَابُ إِثْمِ مَنْ لَمْ يُتِمَّ الصُّفُوفَ) وساق (724) عَنْ بُشَيْرِ بْنِ يَسَارٍ الأَنْصَارِيِّ، عَنْ أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ، أَنَّهُ قَدِمَ المَدِينَةَ فَقِيلَ لَهُ: مَا أَنْكَرْتَ مِنَّا مُنْذُ يَوْمِ عَهِدْتَ رَسُولَ اللَّهِ ﷺ؟ قَالَ: «مَا أَنْكَرْتُ شَيْئًا إِلَّا أَنَّكُمْ لاَ تُقِيمُونَ الصُّفُوفَ»!.
قال ابنُ رجب في فتح الباري (6/281): «وأما استدلال البخاري به على إثم من لم يتم الصف ففيه نظر؛ فإنَّ هذا إنما يدل على أنَّ هذا مما يُنكر، وقد يُنكر المحرّم والمكروه!. وكان الاستدلال بحديث: «لتسون صفوفكم أو ليخالفن الله بين وجوهكم» على الإثم أظهر، كما سبق التنبيه عليهِ».
قلت: وهو متعقّب. قال ابن حجر في الفتح: «قال ابن رشيد : أوردَ فيه حديث أنس «ما أنكرت شيئا إلا أنكم لا تقيمون الصفوف» وتعقّب : بأن الإنكار قد يقع على ترك السُّنة فلا يدل ذلك على حصول الإثم . وأجيب بأنه لعله حمَل الأمر في قوله تعالى ﴿فليحذر الذين يخالفون عن أمره﴾ على أن المراد بالأمر الشأن والحال لا مجرد الصيغة فيلزم منه أنّ مَن خالف شيئًا من الحال التي كان عليها ﷺ أنْ يأثم لما يدل عليه الوعيد المذكور في الآية ، وإنكار أنس ظاهر في أنهم خالفُوا ما كانوا عليه في زمن رسول الله ﷺ من إقامة الصفوف ، فعلى هذا : تستلزم المخالفة التأثيم انتهى كلام بن رشيد ملخصًا وهو ضعيف لأنه يُفضـي إلى أن لا يبقى شيء مسنون : لأنّ التأثيم إنما يحصُل عن ترك واجب .
وأما قول ابن بطال : إنَّ تسويةَ الصُّفوف لما كانت من السُّنن المندوب إليها التي يَستحق فاعلها المدح عليها ؛ دلَّ على أنَّ تاركها يستحقّ الذم؛ فهو متعقَّب من جهة : أنه لا يلزم من ذمّ تارك السنة أن يكون آثما، سلَّمنا ؛ لكن يَرد عليه التعقُّب الذي قبله.
ويحتمل أن يكون البخاري : أخذَ الوجوب من صيغة الأمر في قوله «سووا صفوفكم» ومن عموم قوله: «صلوا كما رأيتموني أصلي» ومِن وُرود الوعيد على تركه ، فرجَح عنده بهذه القرائن أنَّ إنكار أنس إنما وقع على تركِ الواجب ، وإن كان الإنكار قد يقع على ترك السنن ، ومع القول بأنّ التسوية واجبة فصلاة مَن خالف ولم يسوِّ صحيحة لاختلاف الجهتين ويؤيد ذلك : أنَّ أنسًا مع إنكاره عليهم لم يأمرهم بإعادة الصَّلاة».
ومنها: مشروعيَّة الركوع دون الصَّف، لحديث أبي بكرة رضي الله عنه في البخاري : أَنَّهُ انْتَهَى إِلَى النَّبِيِّ ﷺ وَهُوَ رَاكِعٌ، فَرَكَعَ قَبْلَ أَنْ يَصِلَ إِلَى الصَّفِّ، فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ ﷺ: «زَادَكَ الله حِرْصًا وَلَا تَعُدْ». وثبت عن جماعة من الصحابة أنهم أدركوا الإمام في الركوع فركعوا دون الصف ودخلوا الصف، ذكره ابن المنذر في الأوسط (4/211) ط: الفلاح.
وأما قوله «زادك الله حرصا (ولا تعد) ففي النهي أقوال:
1- لا تعد للإسراع. قاله الشافعي وطائفة.
2- لا تعد للركوع خلف الصفّ وهو مروي عن أحمد.
3- لا تعد إلى الإبطاء عن الصَّلاة حتى يفوتك منها شيء. نقله ابن عبدالبر عن العلماء، وتعقبه ابن رجب. انظر فتح الباري (7/123).
والأول أصح، وقواه ابنُ حجر، أي لا تعُد إلى ما صنعتَ من السَّعي الشديد لأنه قد ورد ما يقتضـي ذلك صريحا في طرق حديثه.
وقد ذهب بعض الفقهاء كالشافعي -فيما حكاهُ ابن حجر- إلى كَون حديث أبي بكرة صَارف للنهي في حديث وابصة ونحوه عن الانفراد خلْف الصف، وذلك لكون أبي بكرة أتى بجزءٍ من الصَّلاة خلْف الصفّ ولم يؤمر بالإعادة.
قال ابنُ حجر: «وجمعَ أحمدُ وغيرُه بين الحديثين بوجهٍ آخر وهو: أنَّ حديثَ أبي بكرة مخصِّص لعموم حديث وابصة ، فمَن ابتدأ الصَّلاة منفردًا خلْف الصَّف ثمّ دخل في الصَّف قبل القيام من الركوع: لم تجب عليه الإعادة كما في حديث أبي بكرة ، وإلا فتجب على عموم حديث وابصة وعلي بن شيبان».
وعليه: فمَن قام في الصَّف وحده فكبّر منفردًا وبقي كذلك ثمّ أدركه مَن يصفّ معه، فليس منفردًا وتصحّ ركعتُه عندَ مَن يُبطل صلاة الفذّ خلْف الصف في هذه الصُّورة، بل حكى ابنُ تيمية عليه الاتفاق، ومشروعية إدراكه الصلاة من أولها وعدم الانتظار حتى يأتي من يُصافّه : هو من أجل لحوق الفضل والجماعة، والأجر. ولهذا سمّاه النبي ﷺ من أبي بكرة «حرصًا».
ومنها: أنّ الإمام البخاري بوّب: (بَاب: المَرْأَةُ وَحْدَهَا تَكُونُ صَفًّا) وذكر حديث أنس.
قال ابنُ حجر: «قوله: وأمي -أم سليم- خلفنا» فيه : أنَّ المرأة لا تصفّ مع الرجال ، وأصله ما يُخشى من الافتتان بها».
ثمّ حكى ابنُ حجر عن ابن رشيد مقصود البخاري من الترجمة، فقال: «وقال ابنُ رُشيد : الأقرب أنَّ البخاري قصَدَ : أنْ يبيِّن أن هذا مستثنى من عموم الحديث الذي فيه «لا صلاة لمنفرد خلف الصف». خُصّصت المرأة لكَونها تفتن ويُفتَتن بها». انتهى.
قلتُ: وهكذا يَقوى أن يُرخَّص في الإكراه خشية الافتتان في دينه.
ثمَّ رأيتُ شيخ الإسلام قد أومأ إلى هذا الذي ذكرتُه بحمد الله فقال كما في مجموع الفتاوى (20/ 559): «وأمَّا المرأة فإنها تقف وحدَها إذا لم يكن هناك امرأة غيرها فالسنة في حقّها الاصطفاف؛ لكن قضية المرأة تدلُّ على شيئين. تدلُّ على أنه إذا لم يجد خلْف الصَّف مَن يقوم معه وتعذّر الدُّخول في الصف: صلى وحده ، للحَاجة وهذا هو القياس».
فائدة: ويقوى هذا أيضًا : مع المجذوم. خشيةَ الافتتان في الصَّلاة والتشويش.
ويتمّ هذا الدّليل -في خصُوص المجذوم- إذا عَلمْنا أنه يُشرع مجانبة المجذوم، ومَن بهِ وبَاء.
فإنْ قيل: أكثر المصلّين أصحّاء ولا نعلمُ بهمْ علّة، قيل: ليس الكلام فيهم هنا في هذا التنبيه، بل في مَن عُلم مرضُه فتفهّم!، ولعلَّك تستفيد من هذه الجملة في مسألة ذكرَها الفقهاء وذكرها في (بذل الماعون) وهي الصَّلاة مع المجذومين وشهودهم الجماعات، فتفقّه!.
ومنها: هل الاصفاف شرْط لصِحّة الصَّلاة، أو واجب فيها.
وعلى أيّ الأمرين، فهل الشرط أو الواجب يسقُط بالعذر، كالعجز عنه ، أو للإكراه.
والذي نعلمُه مِن أحكام الصَّلاة : صِحَّة الصلاة مع الأمرين، ونذكر مثالين للأمرين لكلِّ واحد منهما بمثال .
1- فمثال الشرط: ستر العورة فمَن لم يجد ما يستتر به أو أُجبر على أنَّ يصلي مكشوف العورة، فإن صلاته تصح كما ذكره الفقهاء. وكذا إذا لم يجد إلا ثوبًا نجسًا، أو صُب على ثوب الأسير نجاسة؛ فإنه يصلي فيه.
2- ومثال الواجب: مَن ترك واجبًا يقولُ هو بوجوبه: للعُذر - لأنَّ في عدِّ الواجبات خلاف كثير حتى المثال المشهور وهو التشهُّد الأوسط فإنَّ الأكثرين على أنه سنة، وليس بواجب فيما حكاه ابنُ رجب- فإذا تركهُ نسيانًا مثلًا، صحَّت صلاته وجبَره بسُجُود السهو.
ومنها: أنَّ تسوية حالةَ الاختيار بحالةِ العُذر مِن عَجزٍ أو نسيانٍ أو إكراه ونحوها ، في شروط وأركان وواجبات الصلاة، لا يقولُ به أحدٌ ، حتى مَن يَمنع من صحَّة الصَّلاة المذكورة -أي مع التباعد- من العلماء. فإنَّهم في مسائل كثيرة يصحِّحُون الصَّلاة مع عدم مجيء المصلّي بشـرط أو ركن، للعجز عنه، أو للعُذر الشرعي.
ومنها: الإمام في صلاة الخوف عند ذهاب طائفة، ومجيء الأخرى، فإنه يَبقى بدون مأمومين وقتًا، ولكن للحاجة في هذا الموضع وللحال، فلا حرَج. والشاهد أن العذر له أثر في أحكام الصلاة.
ومنها: أن يُقال مَا حُكم التشهد الأوسط؟
فإن قيل: سنة، فلا كلام معَه، وإن قيل: واجب، فيقال: هل تبطل الصلاة بتركه عمدا؟
فإن قيل: لا ، فلا كلام معه، وإن قيل: نعم، فيُقال: فمَن تركه سهوا؛ هل تصحّ صلاته؟
فإن قال: تصح صلاته. قلنا: لمه؟ فإن قال: للعذر، واستدل له بالأدلة المعروفة.
قلنا: النسيان، والخطأ، والعجز، والإكراه، أعذار في الشرع وردَت الأدلة بالتسوية بينها في العبادات والصحيح الطرد في ذلك كما سبق وذكرته في (القواعد الفقهية) تبعًا لعدَد من الأئمة.
ومنها: أنْ يُقال: ما حُكم مصَّافة الرَّجل للمرأة في صلاة الجماعة اختيارًا، فإنْ قيل: لا بأس به، فلا كلام ، وإن قيل : يحرُم هذا. فيُقال له: إذا وقع زحام شديد وصلَّى الرجل بجوارهِ المرأة، وصلّت المرأة بجوارها الرجل، أو هي أمَامهُ مباشرة كما يقعُ هذا كثيرًا في صحْن المطاف وفي المسعى وفي مواضع من الحرَم والمشعر الحرام، نظرًا للزحام الشديد، فإن قيل: لا تصح الصَّلاة، فلا كلَام، وإنْ قيل: تصحَ. قيل له: لِـمَه؟. فما ذكره جوابًا فهو جوابنا في صحَّة صلاة مَن لا يقدر على المصافَّة.
ومنها: أنْ يُقال: ما حكم الصَّلاة بين السَّواري؟ فإنْ قيل: مكروهة، وذكر أدلَّته. قلنا: فهل إذا كثُر مَن بالمسجد فضاق بهم وامتلأ بالمصلّين ، هل يحسُن أن يصفُّوا بينها؟ وهل تزول الكراهة؟
فإنْ قال: لا ، فلا كلام. وإن قال: نعم. [وقد قال ابن العربي: إنه لا خلاف في جوازه عند الضِّيق]
قلنا: فهذا حُكمٌ شرعي متعلِّق بالصَّلاة ثبت بالدليل وهو داخل في قسم النهي، فإنَّ المكروهَ منهيٌّ عنه، وعدمُ الحكم هنا: من أجل العُذر، فثبتَ أصل المسألة، وهو أنَّ العذر له أثر في إزالة الحكم.
ومنها: أنْ يُقال إذا صُحِّحَت الصَّلاة بين السَّواري للحاجة، مع وجود الفاصل والتباعد بين المصلِّين، فيلزم منه تصحيح الصَّلاة مع الفرجة بين المصلين للعذر، إذ لا فرق، لأنَّ كلًّا منهما تباعُد وفاصِل بين المصلين صحَّ للعذر والحاجة.
ومنها: أنَّ الصَّبي غير المميِّز لا تصح صلاته، وإذا احتاج أبوه أن يجعلَه بجانبه في الصَّلاة للحاجة خشية أن يضيع أو حصول شرٍّ عليه -كما يحصل كثيرا يخرجُ الشخص وابنه معه وتحضر الصلاة ويخاف أن يتركه في سيارته أو خلف المصلين ونحو ذلك- فإن قيل: تصح الصّلاة للحاجة، مع أنه لا يسدُّ الفرجة، بل هو كالعمود أو الدُّرج -أو أشدّ لِلَعِبه!- فكذلك لو صّلَّى معَ فرجةٍ للعذر.
ومنها: أنْ يُقال : الصَّلاة أمامَ الإمام -قدّامهُ- ما حُكمها؟، فإن قيل: جائزة ، فلا كلام.
وإن قيل: محرَّمة وذكر أدلته. فيُقال: فهل تصحّ للحاجة أو لضرورةٍ من زحام، ونحوه كما يحصُل في المسجد النبوي؟. فإنْ قيل: باطلة؛ فلا كلام. وإن قيل : صحيحة. فما ذكرهُ تعليلًا ؛ فهو ما نقُوله في الجملة في تصحيح الصَّلاة مع التباعد([1]).
وفي الأخير فهذه من جُملة المسائل الفقهية التي يُحتمل فيها المخالف، وتتجاذبها الأفهام، وما كتبتُه فإن كان صوابًا فمن الله وفقني له، فله الحمد كثيرا، وإن كان غير ذلك فأرجو أنْ لا أُحرم من الأجر، وأسأل الله تعالى التوفيق والتسديد فيما أقول وأكتب.
كتبه
أبو محمَّد عبدالله بن لمح الخولاني - مكة – البلد الحرام 19/ رمضان
)[1]( قال شيخ الإسلام كما في مجموع الفتاوى (23/ 404): «أما صلاة المأموم قدام الإمام. ففيها ثلاثة أقوال للعلماء: أحدها: أنها تصح مطلقا وإن قيل إنها تكره وهذا القول هو المشهور من مذهب مالك والقول القديم للشافعي. والثاني: أنها لا تصح مطلقا كمذهب أبي حنيفة والشافعي وأحمد في المشهور من مذهبهما. والثالث: أنها تصح مع العذر دون غيره مثل ما إذا كان زحمة فلم يمكنه أن يصلي الجمعة أو الجنازة إلا قدام الإمام فتكون صلاته قدام الإمام خيرا له من تركه للصلاة. وهذا قول طائفة من العلماء وهو قول في مذهب أحمد وغيره. وهو أعدل الأقوال وأرجحها». وانظر ص 409 من المجلد نفسه.